عندما دخل الفتى على ( عنبر أفندى ) ، رآه جالساً في عظمة وأبهة ، أمامه كثير من الأعيان والحكام والأغنياء ، يقفون في خشوع ، ويتكلمون بأصوات خافتة ، ويستمعون إلى الأوامر التى يلقيها ذلك المأمور عليهم في إصغاء شديد ، فاشتدت دهشته لما يرى ولما يسمع ، وجعل يقول لنفسه فى عجب : - كيف يقف هؤلاء الكبار أمام هذا الرجل ، خاضعين لأمره ، وهم أصحاب القصور والخدم والحشم والعبيد ، والناس يهابونهم ، ولا يعصون لهم أمراً ؟!! ما سر عظمة هذا الرجل ؟ كيف وصل إلى هذا المنصب الخطير ، وهو غير تركى ، ولم يعهد من قبل أن ولى مثل هذه المناصب أحد من غير الأتراك ؟!
وماذا أكسبه ذلك الجلال ، الذى يخضع له كبار الناس ، ويجعلهم يقبلون يده في أدب ، ولا يخالفون له رأياً ، ولا يعترضون على شىء من قوله أو فعله ؟!
لم نر مثل هذا من قبل ولم نسمع به ، وما نعرف الحكام إلا من الأتراك ، فلابد من معرفة سر هذا الجلال وتلك العظمة !
ولما كانت همة ( على ) في أن يحيا حياة كريمة ، لا ذل فيها ولا مهانة ، جعل يسأل الناس عن ذلك السر ، فوجدهم لا يعرفونه ، ومنهم أبوه الذى أجابه إجابات لم ترضه ، فاتجاه إلى أكثر الناس احتكاكا بالمأمور ، وهو فراشه ، وسأله عن ذلك السر .
فأخبره بأن هذا المأمور دخل مدرسة ( القصر العينى ) ، بعد أن توسطت له إحدى سيدات المجتمع الفضليات ؛ كما أخبره أن تلاميذ هذه المدرسة يتعلمون فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك ، وأن الحكام يؤخذون منها ، فارتاح قلبه ، وصاح بنفسه قائلاً في عزم : - عرفت السر في عظمة ( عنبر أفندى ) وقوته ! أنه التعليم الذى يرفع الناس ، ويعلى أقدارهم ، ويحقق لهم الحياة الحرة الكريمة .
إذن لابد من دخول تلك المدرسة ؛ لأكون من الحكام الكبار ، أو على الأقل مثل ( عنبر أفندى ) ! ثم التفت إلى الفراش ، وقال له في اهتمام شديد : - أيدخل هذه المدرسة أحد من أولاد الفلاحين يا والدى ؟!
فأجابه الفراش ، وهو يهز رأسه ، قائلأ : - يدخل يا بنى صاحب الواسطة ، الذى يبتسم الحظ له ، فيعثر عليها !! فجعل ( على ) يقول لنفسه في حيرة شديدة : - ومن أين لي بتلك الواسطة ؟! شىء بعيد عن أمثالى !! لكن الله أكبر وأقدر ، على أن يهيئ لى دخول تلك المدرسة ، دون اعتماد على أحد سواه . وعاد يسأل الفراش عن ( القصر العينى ) ، وكيف يقيم فيه من يدخلونه .
فأخبره الرجل عن كل ما أحب أن يعرف عن تلك المدرسة ،من مكانها ، والطريق إليها ، والمسافات التى يقطعها قاصداً إياها ، وأسماء البلاد التى يمر بها .. فدون كل ذلك في ورقة دسها في جيبه .
ثم أنصت إلى الرجل وهو يثنى على حسن إقامة التلاميذ في تلك المدرسة ، وعلى طعامهم وملابسهم ، وإكرامهم ، فزاده شوقاً إليها ، وقرر أن يسرع بالذهاب إلى هناك ، واشتد عزمه على ترك وظيفته ، والوصول إلى تلك المدرسة العظيمة ، بأية وسيلة وأى طريق .
ثم دخل على ( عنبر أفندى ) ، وطلب منه الإذن له في زيارة أهله ، ليعطيه إجازة يتمكن فيها من الذهاب إلى تلك المدرسة ومعرفة حالها ، فأذن له بخمسة عشر يوماً .
فسار إلى قريته ليدبر أمره ، ويسرع بالذهاب إلى تلك المدرسة التى تجعله من العظماء ، الذين يحيون حياة حرة كريمة .
كان الحظ ينتظره في طريقه ؛ ليحقق رغبته في دخول تلك المدرسة ، فلم يكد يبتعد عن ( أبو كبير ) حتى التقى بصبيان عند قرية ( بنى عياض ) ، معهم رجل يقودهم ، فمشى معهم واختلط بهم ، وتحدث إليهم وتحدثوا إليه ، فعرف أنهم من تلاميذ مدرسة ( منية العز ) ، فسر واستبشر .
وبعد مدة تعبوا من المشى ، وعجزوا عن السير ، فجلسوا تحت شجرة من الأشجار الكبيرة ، يستظلون بظلها ، ويستريحون من السير ، وجعلوا يتسلون بالتسابق فى الخط ، أيهم أحسن كتابة .
فتسابق ( على ) معهم ، ولماا رأوا خطه الجميل ، أقروا له بالسباق ، وقالوا له في عجب : لو التحقت بمكتبنا لصرت ( جاويشا ! ) .
فأسرع الرجل الذى يقودهم ، وهو يقلب ورقة ( على ) في يده ، قائلاً في دهشة : - لا ، بل لكان في رتبة ( الباش جاويش ) .
ولما سأل ( على ) عن معنى ما يقولون ، أخبروه بأن ( الجاويش ) و ( الباش جاويش ) ،هم أصحاب مكانة كبيرة في المدرسة ، فزاد سروره ، وبدت تلك المدرسة أمامه شيئاً عظيماً ، ينبغى أن يسرع إليه ، وعاد الرجل يقول له مشجعاً : - سيكون لك يا بنى مستقبل حسن ، لو أنك دخلت مكتب ( منية العز ) ، فهو يوصل إلى مدرسة ( القصر العينى ) . وحين ينتهى بك الأمر إلى تلك المدرسة ، وما بعدها من مدارس عالية ، ستصبح رجلاً عظيماً جداً .. وستكون نفقتك كلها في تلك المدارس على حساب الدولة ، تأكل وتشرب وتلبس ، وتأخذ مع ذلك مصروفاً شهرياً تنفقه كما تشاء .
فدق قلب ( على ) بالفرح الشديد ، وود لو أنه أغلق عينيه وفتحهما ، فوجد نفسه في تلك المدرسة ، يسير في الطريق الذى سار فيه ( عنبر أفندى ) ، وغيره من الكبراء .
ومضى مع الأطفال إلى مكتبهم بــ( منية العز ) ، وتقدم إلى ناظر المكتب ، يطلب منه أن سجل اسمه في عداد التلاميذ .
وكان الناظر يعرفه يعرف أباه ، ويعلم أن أباه لن يرضى أبداً بأن يصبح ابنه تلميذاً بهذا المكتب ؛
وماذا أكسبه ذلك الجلال ، الذى يخضع له كبار الناس ، ويجعلهم يقبلون يده في أدب ، ولا يخالفون له رأياً ، ولا يعترضون على شىء من قوله أو فعله ؟!
لم نر مثل هذا من قبل ولم نسمع به ، وما نعرف الحكام إلا من الأتراك ، فلابد من معرفة سر هذا الجلال وتلك العظمة !
ولما كانت همة ( على ) في أن يحيا حياة كريمة ، لا ذل فيها ولا مهانة ، جعل يسأل الناس عن ذلك السر ، فوجدهم لا يعرفونه ، ومنهم أبوه الذى أجابه إجابات لم ترضه ، فاتجاه إلى أكثر الناس احتكاكا بالمأمور ، وهو فراشه ، وسأله عن ذلك السر .
فأخبره بأن هذا المأمور دخل مدرسة ( القصر العينى ) ، بعد أن توسطت له إحدى سيدات المجتمع الفضليات ؛ كما أخبره أن تلاميذ هذه المدرسة يتعلمون فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك ، وأن الحكام يؤخذون منها ، فارتاح قلبه ، وصاح بنفسه قائلاً في عزم : - عرفت السر في عظمة ( عنبر أفندى ) وقوته ! أنه التعليم الذى يرفع الناس ، ويعلى أقدارهم ، ويحقق لهم الحياة الحرة الكريمة .
إذن لابد من دخول تلك المدرسة ؛ لأكون من الحكام الكبار ، أو على الأقل مثل ( عنبر أفندى ) ! ثم التفت إلى الفراش ، وقال له في اهتمام شديد : - أيدخل هذه المدرسة أحد من أولاد الفلاحين يا والدى ؟!
فأجابه الفراش ، وهو يهز رأسه ، قائلأ : - يدخل يا بنى صاحب الواسطة ، الذى يبتسم الحظ له ، فيعثر عليها !! فجعل ( على ) يقول لنفسه في حيرة شديدة : - ومن أين لي بتلك الواسطة ؟! شىء بعيد عن أمثالى !! لكن الله أكبر وأقدر ، على أن يهيئ لى دخول تلك المدرسة ، دون اعتماد على أحد سواه . وعاد يسأل الفراش عن ( القصر العينى ) ، وكيف يقيم فيه من يدخلونه .
فأخبره الرجل عن كل ما أحب أن يعرف عن تلك المدرسة ،من مكانها ، والطريق إليها ، والمسافات التى يقطعها قاصداً إياها ، وأسماء البلاد التى يمر بها .. فدون كل ذلك في ورقة دسها في جيبه .
ثم أنصت إلى الرجل وهو يثنى على حسن إقامة التلاميذ في تلك المدرسة ، وعلى طعامهم وملابسهم ، وإكرامهم ، فزاده شوقاً إليها ، وقرر أن يسرع بالذهاب إلى هناك ، واشتد عزمه على ترك وظيفته ، والوصول إلى تلك المدرسة العظيمة ، بأية وسيلة وأى طريق .
ثم دخل على ( عنبر أفندى ) ، وطلب منه الإذن له في زيارة أهله ، ليعطيه إجازة يتمكن فيها من الذهاب إلى تلك المدرسة ومعرفة حالها ، فأذن له بخمسة عشر يوماً .
فسار إلى قريته ليدبر أمره ، ويسرع بالذهاب إلى تلك المدرسة التى تجعله من العظماء ، الذين يحيون حياة حرة كريمة .
كان الحظ ينتظره في طريقه ؛ ليحقق رغبته في دخول تلك المدرسة ، فلم يكد يبتعد عن ( أبو كبير ) حتى التقى بصبيان عند قرية ( بنى عياض ) ، معهم رجل يقودهم ، فمشى معهم واختلط بهم ، وتحدث إليهم وتحدثوا إليه ، فعرف أنهم من تلاميذ مدرسة ( منية العز ) ، فسر واستبشر .
وبعد مدة تعبوا من المشى ، وعجزوا عن السير ، فجلسوا تحت شجرة من الأشجار الكبيرة ، يستظلون بظلها ، ويستريحون من السير ، وجعلوا يتسلون بالتسابق فى الخط ، أيهم أحسن كتابة .
فتسابق ( على ) معهم ، ولماا رأوا خطه الجميل ، أقروا له بالسباق ، وقالوا له في عجب : لو التحقت بمكتبنا لصرت ( جاويشا ! ) .
فأسرع الرجل الذى يقودهم ، وهو يقلب ورقة ( على ) في يده ، قائلاً في دهشة : - لا ، بل لكان في رتبة ( الباش جاويش ) .
ولما سأل ( على ) عن معنى ما يقولون ، أخبروه بأن ( الجاويش ) و ( الباش جاويش ) ،هم أصحاب مكانة كبيرة في المدرسة ، فزاد سروره ، وبدت تلك المدرسة أمامه شيئاً عظيماً ، ينبغى أن يسرع إليه ، وعاد الرجل يقول له مشجعاً : - سيكون لك يا بنى مستقبل حسن ، لو أنك دخلت مكتب ( منية العز ) ، فهو يوصل إلى مدرسة ( القصر العينى ) . وحين ينتهى بك الأمر إلى تلك المدرسة ، وما بعدها من مدارس عالية ، ستصبح رجلاً عظيماً جداً .. وستكون نفقتك كلها في تلك المدارس على حساب الدولة ، تأكل وتشرب وتلبس ، وتأخذ مع ذلك مصروفاً شهرياً تنفقه كما تشاء .
فدق قلب ( على ) بالفرح الشديد ، وود لو أنه أغلق عينيه وفتحهما ، فوجد نفسه في تلك المدرسة ، يسير في الطريق الذى سار فيه ( عنبر أفندى ) ، وغيره من الكبراء .
ومضى مع الأطفال إلى مكتبهم بــ( منية العز ) ، وتقدم إلى ناظر المكتب ، يطلب منه أن سجل اسمه في عداد التلاميذ .
وكان الناظر يعرفه يعرف أباه ، ويعلم أن أباه لن يرضى أبداً بأن يصبح ابنه تلميذاً بهذا المكتب ؛