الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

الفصل الثالث : السجين المظلوم

قصة ( على مبارك ) 

مط الشيخ ( مبارك ) شفتيه ، وهز كتفيه ؛ عجباً من هذا الصغير العنيد ، الذى لا يرضى أن يفرض أحد عليه رأياً ، ويأبى إلا أن يجرب العمل بنفسه ؛ ليوافق عليه أو لا يوافق ، ثم ذهب إلى ذلك الكاتب ، ورجاه أن يقبل ابنه تلميذاً له ، فوافق على طلبه .
ولما عمل الصبى معه ، رضى بعمله ، واطمأن إلى مصاحبته ، فقد وجد أنه ينال شيئاً من المال الذى يدفعه الفلاحون له .
لكنه لم يمكث طويلاً معه ، وطرده بعد ثلاثة أشهر من خدمته ؛ لأنه كان لصغره يتحدث إلى الناس ببساطة ، عما يأخذه الكاتب من الفلاحين ، ولا يعرف خطر ذلك عليه ، فاغتاظ الرجل لإفشاء ذلك السر الذى يضره .
فلم يهتم أبو ( على ) لطرد ابنه ، وعاد يعلمه بنفسه ، وكان مكلفاً بجمع ما على ( عرب السماعنة ) من أموال مفروضة للدولة ، فإذا خرج لأداء عمله أخذه معه ؛ ليقوم بكتابة ذلك المال وحسابه .
ثم ألحقه بكاتب فى مأمورية ( أبو كبير ) شرقية ، بأجر قدره خمسون قرشاً فى الشهر . لكنه لم يستمر طويلاً فى هذا العمل ؛ إذا وجد أنه يخدم هذا الكاتب بصدق وأمانة ، ومع ذلك يأكل عليه أجره ، ولا يعطيه شيئاً غير الطعام ، ومكث على هذا الحل ثلاثة أشهر ، حتى ساءت حاله ، فعزم على أن يأخذ حقه بالحيلة .
وذات يوم ، بعثه الرجل ليقبض بعض المال ، فقبضه وأخذ منه مقدار أجره ، وذهب إلى الكاتب وسلمه كيس النقود ، وأخبره أنه أخذ مائة وخمسين قرشاً ، قيمة أجره عن ثلاث شهور ، وتركه وانصرف مسرعاً قبل أن يمسك به ، فثار الكاتب ثورة شديدة لذلك التصرف الجرىء ، وعزم على أن ينتقم من الصبى أشد انتقام .
فذهب إلى المأمور وأخبره بما حدث ، فغضب هو الآخر وثار ، واتفقا معا على الانتقام من هذا الولد الجرىء ، الذى لا يخاف أحداً .
وفى هذا الوقت جاء إلى المركز طلب من الحكومة ، باختيار بعض الشبان للخدمة العسكرية ، فانتهز المأمور الفرصة ، ودعا الفتى إليه ، وقال له فى هدوء : -تعلم يا ( على ) أننى مسرور منك كثيراً ، ولا أثق فى أحد غيرك يقوم بالأعمال المهمة .
-       نعم يا سيدى ، وأشكرك كل الشكر على هذه الثقة التى أعتز بها .
-       تذهب إلى السجن مسرعاً ، ؛ لتسجيل أسماء ما فيه ، فمطلوب منا اختيار بعض الشبان للخدمة العسكرية ، وعسى أن نجد بينهم من يصلح لها .
وجازت الحيلة على الولد الطيب المسكين ، وذهب مسرعاً إلى السجن ، فإذا برجال المأمور يحيطون به ، ويضعون فى رقبته قيداً من حديد ، ويلقونه فى السجن المظلم ؛ ليظل فى عشرين يوماً ، بين القاذورات والأوساخ ، والخوف والبكاء .
وقد كان السجان طيب القلب ، عطوفاً ، فاشتد ألماً لما حدث للفتى الصغير السن ، وعزم على أن يصنع شيئاً ينقذه من الظلم الذى نزل به .
وذات يوم ، أقبل على ذلك السجان صديق له ، يعمل عند مأمور لزراعة القطن ، وأثناء الحديث أخبره ذلك الصديق بأن سيده المأمور فى حاجة إلى كاتب يجيد الكتابة والحساب ، ففرح السجان بما يمكن أن يؤديه من خير لذلك الفتى ، وقال لصاحبه على الفور : - وجدت ما تطلب يا صديقى ، فعندنا فى السجن فتى أمين مظلوم ، جيد الخط ، بارع فى الحساب ، وأراه ينفع مأمورك ، فهل يمكنك أن تسعى له فى تلك الوظيفة لوجه الله – تعالى - ؟
فطلب منه صديقه أن يكتب الفتى شيئاً يأخذه معه ، ويعرضه على سيده ، فكتب ( على ) بعض العبارات الرقيقة على ورقة نظيفة ، بخط جميل ، أخذها الخادم ، وعاد بها مسرعاً إلى سيده ، فلما قرأها سر بها سروراً كبيراً ، ووافق على تعيين صاحبها فى الوظيفة الخالية .
وبعد قليل ، عاد الخادم إلى السجن ، ومعه أمر بالإفراج عن ( على ) ، فأفرج عنه ، فأخذه الخادم بيده ، وانطلق به مسرعاً إلى مأموره ( عنبر أفندى ) وأدخله عليه .
فحادثه المأمور طويلاً ، واطمأن إلى عقله وإدراكه ، وقدرته على العمل الذى سيتولاه ، وعرض عليه الراتب الذى سيأخذه ، وهو خمسة وسبعون قرشاً فى الشهر ، فقبله شاكراً ، وتسلم عمله ، ثم انصرف ليعود غليه فى صباح الغد .
وازداد ( على ) قناعة بالعلم ، وضرورة تحصيله ؛ فقد أخرجه العلم من السجن وظلماته .
وهنا نسج ( على ) خيوط مستقبله ؛ ليكون على الأقل مثل مأمور الزراعة ( عنبر أفندى ) . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق