قصة ( على مبارك )
ولما
اطمأن الشيخ ( مبارك ) إلى حياته الجديدة عند ( عرب السماعنة ) ، التفت إلى تعليم
ابنه ( على ) ، وأخذ يعلمه بنفسه ، لكن مشاغله الكثيرة لم تمكنه من مواصلة هذا
التعليم ، فبحث عن معلم يثق فيه ، حتى اهتدى إلى شيخ مهاجر ، يسكن قريباً من مساكن
البدو ، أصله من ( برنبال ) ، واسمه الشيخ ( أحمد أبو خضر ) ، فاتفق معه على تعليم
( علي ) .
وحلت
المشكلة ، بأن يقيم الصبى مع الشيخ فى بيته طوال الأسبوع ، ويعود إلى منزله يوم
الجمعة ، كما اتفقا على أن يبعث الولد إلى الشيخ ما يكفى الطفل أجراً وإقامة .
ودعه
أبوه وأمه وداعاً حاراً ، ونصحاه بالجد والاجتهاد ، وبطاعة الشيخ ، ووعداه بجائزة
كبيرة إذا أنتظم فى تعليمه وتفوقه ، وحفظ القرآن الكريم سريعاً .
وكانت
الأم مهمومة حزينة ، شديدة الألم لفراق وحيدها ، واغترابه بعيداً عنها .
لكنها
تعرف قيمة التعليم .. إنه يخلق الرجال الأفاضل . ويحقق لصاحبه حياة حرة كريمة .
فعادت تصبر نفسها ، وتسأل الله – تعالى – أن يحرس صغيرها ، ويبعد عنه الأخطار .
عندما
ذهب الصبى إلى الشيخ ( أبى خضر ) فى كتابه ، وجده كاشر الوجه ، قاسى الطبع ،
بجانبه عصا غليظة ، ينظر إليها أولاد الكتاب فى خوف شديد ، فملكه الرعب ، ثم ازداد
ما به من الفزع ، وهو يرى تلك العصا تهوى على جسد بعض أولئك الأولاد لأتفه الأسباب
. فكره الشيخ ، وقال لنفسه فى ألمٍ شديدٍ : هل يليق بالمعلم أن يكون بمثل هذه
القسوة ؟ وهل جئنا إلى هنا لنتعلم الجبن والخوف ؟
وبعد
فترة ، أدرك أنه يمكن أن ينجو من شر هذه العصا ، إذا أجتهد ليتم حفظ القرآن الكريم
، وعندئذ يترك الكتاب ، ويبعد عن صاحبه الذى يقسو على تلاميذه بالضرب والسب
والإهانة ، وأمضى سنتين كاملتين على هذه الطريقة ، أتم فيهما حفظ القرآن الكريم
للمرة الأولى ، والتى تسمى البداية . وكان لابد له من أن يظل بعد ذلك مع الشيخ ؛
ليعيد الحفظ ويثبته ، وأبوه شديد الفرح به ، وإن كان لا يعلم ما فى نفسه من هذا
التعليم الذى يقاسى ويلاته .
فلما
ثقلت عليه العصا ، رفض الذهاب إلى الشيخ ، ولم يفد معه تهديد أبيه ولا غيره ، ممن
كانوا يريدون إرغامه على الذهاب إلى الكتاب ، فعاد أبوه يعلمه بنفسه .
ولمشاغله
الكثيرة ، لم يستطع الإشراف الكامل عليه ، فانصرف إلى اللعب ؛ حتى نسى ما حفظ وما
تعلم ، فحزن أبوه لذلك ، ودعاه إليه ، وقال له فى شدة : - من الغد يا ( على ) ،
تذهب إلى الشيخ ( أبى خضر ) وتواصل الذهاب إليه ؛ لتتم حفظك وتعليمك ! أسمعت ؟
فانفجر
الصبى صائحاً فى قوة وعزم : - وأعود مرة أخرى إلى العصا الغليظة ، والمعاملة
القاسية ، وأتعلم الخضوع ، والمذلة ، والجبن ! لا ، لن أعود أبداً إلى ذلك الشيخ .
-
بل ستعود رغماً عنك ، فلا طريق لك سوى التعليم ! وانضم أحد إخوته إلى
أبيه ، يزجر هذا الصبى الجرىء المتفتح العقل ، الشجاع الذى يعلن رأيه فى صراحة .
وتدخل
الكثيرون ليخيفوه ؛ حتى يطيع ما يأمره به أبوه ، لكنه ظل عازماً على الرفض ،
والحاضرون كلهم ينتظرون من أبيه أن يقوم إليه ، ويوسعه ضرباً ، ولا يتركه حتى يخضع
له .
لكن الأب
العاقل الحكيم ، أدرك ما فى نفس الصبى ، وقرأ ما فى وجهه من علامات التمرد ، فخاف
أن تلجئه الشدة إلى الهروب ، فعاد إلى الهدوء .
وتنبه
أحد إخوة الصبى إلى تفتحه ، وقوة نفسه ، وهب واقفاً ، وتقدم منه بوجه باسم وطوقه
بذراعه ، ولاطفه ، وقال له فى بشاشة : - سنترك لك الحرية يا صديقى ، فى اختيار
طريقك إلى مستقبلك ، فماذا ترى أن تتوجه إليه ، لتصبح بعدما تكبر رجلاً محترماً ؟
فأسرع
الصبى فى شجاعة : - أحب أن أكون كاتباً ، مثل ذلك الرجل الذى رأيته يعمل عند موظف
كبير ، أعجبنى شكله ، وسرتنى ملابسه ، ورأيت الناس يهابونه ويحترمونه .
فصاح
أبوه مسرعاً : - اطمئن يا ولدى ، فسوف نحقق لك رغبتك ، ما دامت توافق هوالك .
وأسرع به إلى صديق له ، من الكتاب الذين يكتبون للناس شكاواهم وعقودهم وغيرها ،
ورجاه أن يعلمه ويربيه ، ويأخذه معه فى منزله ، ويجعله واحداً من أولاده ، ويدفع
له هو ما يقابل ذلك من المال .
وسر
الصبى كثيراً حين ذهب إلى ذلك الكاتب ، ورأى ثيابه النظيفة ، وملابسه الحسنة ،
وجعل يقول لنفسه فى فرح شديد : - بلغت يا ( على ) ما كنت تتمنى ! هذا هو المكان
الذى كنت تحلم به ، وسوف تتعلم فيه أحسن تعليم ، وتقيم أحسن أقامة ، مع هذا الرجل
الظريف النظيف العطوف ، الذى لا يضرب ، ولا يشتم ، ولا يؤذى ، ولن يحرمك شيئاً مثل
( الشيخ أبو خضر ) !
لكن ظنه
كان خاطئاً ، فقد غره المظهر ولم يعلم ما وراءه ، فسريعاً ما ظهرت له الحقيقة
المرة ، فلم يجد فى بيت هذا الرجل الهدوء الذى كان ينشده . ووجده يموج بالضجة ؛
لكثرة عيال الرجل من زوجاته الثلاث ، ثم وجده يقتر عليه فى الطعام ، فلا يعطيه ما
يشبعه ، وفى كثير من الليالى يحرمه منه ، فيبيت جائعاً .
فإذا خرج
إلى العمل أخذه معه ، لا يعلمه ، بل ليتخذه خادما ً يخدمه ، مع إهانته وسبه وشتمه
.
فلم يطق
هذا الجو الكئيب ، وعاد إلى أبيه يشكو إليه هذا الكاتب المعلم الذى يؤذيه ، ولا
يستفيد شيئاً منه ، ويريه آثار الضرب الشديد الظاهرة فى جسده ، وما أحدث فى رأسه
من الجروح الغائرة .
فقابل
ألوه شكواه بالغضب الشديد منه ، وصاح فيه قائلاً فى قسوة : - اخسأ يا ولد وتأدب ،
ولا تقل هذا عن معلمك ! إنه يعلمك ويرشدك ، وقديماً قالوا : (( من علمنى حرفاً ،
صرت له عبداً )) . – لكنه يا أبى لا يرشدنى ، ولا يعلمنى حرفاً ولا غيره ، بل
يؤذينى ويجيعنى ، فكيف أصبر على هذا الحال ؟! ولماذا أكذب وقد اخترت بنفسى هذا
الطريق ، الذى ظننت أنه سيجعلنى إنساناً محترماً ؟
وفات
الشيخ ( مباركاً ) أن يقرأ ما فى وجه صغيره كما قرأه فى المرة السابقة ؛ ليتبين ما
فيه من العزم على أمر خطير ، ويعرف أن الشدة لا تفيد ، وأنه كان ينبغى أن يرق مع
ابنه ؛ حتى لا يزيده كراهية لما هو فيه ، ويدفعه إلى شىء لا يحبه . ولم يسرع الشيخ
( مبارك ) إلى ترضية صغيره وتهدئة نفسه ، حتى وقع ما خاف منه وخافت منه الأسرة
كلها ؛ فقد ذهب الصبى إلى قريته الأولى ( برنبال ) ، دون أن يخبر أسرته ، واتجه
إلى أخ له هناك كان قد عاد إلى ( برنبال ) ، وأقام معه ، لعله يقنع والده بعد
الذهاب إلى الكاتب ، فأسرعوا يبحثون عنه ، حتى عثر عليه أحد إخوته ، بعد أن طاف
بالبلاد يبحث عنه .
ولم
يزجره ذلك الأخ العاقل ، ولم يعاتبه على ترك اسرته دون علمها ، بل استخدم معه
اللين والملاطفة ، ولم يتركه حتى رضى بالعودة معه إلى ( السماعنة ) ، وهو يفكر
فيما سيصنعه أبوه .
وأخوه
يلحظ عليه ذلك التفكير ، ويطمئنه ، ويخبره بأن أمه وأباه فى شوق إليه ، ويؤكد له
أن أباه لن يعاقبه ، ولا يود إلا أن يعرف منه الطريق الذى يحب أن يسير فيه ؛ ليكون
رجلاً عظيماً يقدره الناس كل التقدير .
وكان
الشيخ ( مبارك ) والأسرة كلها ، فى حيرة شديدة من أمر هذا الصبى . يحث بعضهم أباه
على أن يستخدم معه أقصى الشدة ، ويرى بعضهم أن يقيده بقيد من حديد ، ويلقيه فى
حجرة مظلمة ، ويحرمه مما يشتهيه ؛ حتى يطيع أوامر من هم أكبر منه سناً وأكثر تجربة
، ثم رأوا أخيراً أن يعرضوا عليه التعليم مرة أخرى باللين ، ما دامت الشدة لا تفيد
معه .
فلما حضر
مع أخيه ، لم يظهروا له الغضب ، وعرضوا عليه التعليم برقة ، فصاح فى مرارة : -
صدقونى أيها الناس ! لا فائدة من تعليمى بهذا الشكل ، فلم أستفد من المعلم الأول ،
ولم ألق سوى الضرب والإهانة ، والسب والشتم ، ولم أستفد من الكاتب ، ولم أشعر إلا
بالضياع والإذلال ، وتشغيلى خادماً حقيراً . فهل بعد ذلك تعرضون على ذلك التعليم
؟!
وقال
أبوه وصدره مملوء بالهم والحزن : - وما رأيك يا ( على ) فى أن تعمل مع كاتب من
الكتاب ، الذين يقيسون الأراضى للفلاحين ، يعلمك قياس الأراضى وتوزيعها ، وذلك عمل
نظيف مريح ؟
قال
الصبى فى اعتزاز بنفسه : - أجرب يا والدى هذا العمل أولاً ، فإذا أعجبنى ،وإلا
بحثت عن عمل آخر يعجبنى ، ويرضى نفسى ، فإنى أود أن أكون من الكبراء ، ولن أرضى
بغير ذلك أبداً أبداً !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق