قصة ( على مبارك )
مط الشيخ
( مبارك ) شفتيه ، وهز كتفيه ؛ عجباً من هذا الصغير العنيد ، الذى لا يرضى أن يفرض
أحد عليه رأياً ، ويأبى إلا أن يجرب العمل بنفسه ؛ ليوافق عليه أو لا يوافق ، ثم
ذهب إلى ذلك الكاتب ، ورجاه أن يقبل ابنه تلميذاً له ، فوافق على طلبه .
ولما عمل
الصبى معه ، رضى بعمله ، واطمأن إلى مصاحبته ، فقد وجد أنه ينال شيئاً من المال
الذى يدفعه الفلاحون له .
لكنه لم
يمكث طويلاً معه ، وطرده بعد ثلاثة أشهر من خدمته ؛ لأنه كان لصغره يتحدث إلى
الناس ببساطة ، عما يأخذه الكاتب من الفلاحين ، ولا يعرف خطر ذلك عليه ، فاغتاظ
الرجل لإفشاء ذلك السر الذى يضره .
فلم يهتم
أبو ( على ) لطرد ابنه ، وعاد يعلمه بنفسه ، وكان مكلفاً بجمع ما على ( عرب
السماعنة ) من أموال مفروضة للدولة ، فإذا خرج لأداء عمله أخذه معه ؛ ليقوم بكتابة
ذلك المال وحسابه .
ثم ألحقه
بكاتب فى مأمورية ( أبو كبير ) شرقية ، بأجر قدره خمسون قرشاً فى الشهر . لكنه لم
يستمر طويلاً فى هذا العمل ؛ إذا وجد أنه يخدم هذا الكاتب بصدق وأمانة ، ومع ذلك
يأكل عليه أجره ، ولا يعطيه شيئاً غير الطعام ، ومكث على هذا الحل ثلاثة أشهر ،
حتى ساءت حاله ، فعزم على أن يأخذ حقه بالحيلة .
وذات يوم
، بعثه الرجل ليقبض بعض المال ، فقبضه وأخذ منه مقدار أجره ، وذهب إلى الكاتب
وسلمه كيس النقود ، وأخبره أنه أخذ مائة وخمسين قرشاً ، قيمة أجره عن ثلاث شهور ،
وتركه وانصرف مسرعاً قبل أن يمسك به ، فثار الكاتب ثورة شديدة لذلك التصرف الجرىء
، وعزم على أن ينتقم من الصبى أشد انتقام .
فذهب إلى
المأمور وأخبره بما حدث ، فغضب هو الآخر وثار ، واتفقا معا على الانتقام من هذا
الولد الجرىء ، الذى لا يخاف أحداً .
وفى هذا
الوقت جاء إلى المركز طلب من الحكومة ، باختيار بعض الشبان للخدمة العسكرية ،
فانتهز المأمور الفرصة ، ودعا الفتى إليه ، وقال له فى هدوء : -تعلم يا ( على ) أننى
مسرور منك كثيراً ، ولا أثق فى أحد غيرك يقوم بالأعمال المهمة .
- نعم يا سيدى ، وأشكرك
كل الشكر على هذه الثقة التى أعتز بها .
- تذهب إلى السجن
مسرعاً ، ؛ لتسجيل أسماء ما فيه ، فمطلوب منا اختيار بعض الشبان للخدمة العسكرية ،
وعسى أن نجد بينهم من يصلح لها .
وجازت الحيلة على الولد الطيب المسكين ، وذهب مسرعاً إلى السجن ، فإذا
برجال المأمور يحيطون به ، ويضعون فى رقبته قيداً من حديد ، ويلقونه فى السجن
المظلم ؛ ليظل فى عشرين يوماً ، بين القاذورات والأوساخ ، والخوف والبكاء .
وقد كان السجان طيب القلب ، عطوفاً ، فاشتد ألماً لما حدث للفتى
الصغير السن ، وعزم على أن يصنع شيئاً ينقذه من الظلم الذى نزل به .
وذات يوم ، أقبل على ذلك السجان صديق له ، يعمل عند مأمور لزراعة
القطن ، وأثناء الحديث أخبره ذلك الصديق بأن سيده المأمور فى حاجة إلى كاتب يجيد
الكتابة والحساب ، ففرح السجان بما يمكن أن يؤديه من خير لذلك الفتى ، وقال لصاحبه
على الفور : - وجدت ما تطلب يا صديقى ، فعندنا فى السجن فتى أمين مظلوم ، جيد الخط
، بارع فى الحساب ، وأراه ينفع مأمورك ، فهل يمكنك أن تسعى له فى تلك الوظيفة لوجه
الله – تعالى - ؟
فطلب منه صديقه أن يكتب الفتى شيئاً يأخذه معه ، ويعرضه على سيده ،
فكتب ( على ) بعض العبارات الرقيقة على ورقة نظيفة ، بخط جميل ، أخذها الخادم ،
وعاد بها مسرعاً إلى سيده ، فلما قرأها سر بها سروراً كبيراً ، ووافق على تعيين
صاحبها فى الوظيفة الخالية .
وبعد قليل ، عاد الخادم إلى السجن ، ومعه أمر بالإفراج عن ( على ) ،
فأفرج عنه ، فأخذه الخادم بيده ، وانطلق به مسرعاً إلى مأموره ( عنبر أفندى )
وأدخله عليه .
فحادثه المأمور طويلاً ، واطمأن إلى عقله وإدراكه ، وقدرته على العمل
الذى سيتولاه ، وعرض عليه الراتب الذى سيأخذه ، وهو خمسة وسبعون قرشاً فى الشهر ،
فقبله شاكراً ، وتسلم عمله ، ثم انصرف ليعود غليه فى صباح الغد .
وازداد ( على ) قناعة بالعلم ، وضرورة تحصيله ؛ فقد أخرجه العلم من
السجن وظلماته .
وهنا نسج ( على ) خيوط مستقبله ؛ ليكون على الأقل مثل مأمور الزراعة ( عنبر
أفندى ) .