قصة على مبارك
فى عهد (محمد على )الكبير
، كان الحكام يفرضون الضرائب الباهظة على الفلاحين ، ومن يتأخر عن تسديد هذه
الضرائب يجلد ويهان ، ويلقى به فى السجن . وكان الفلاحون الفقراء العاجزون عن دفع
الضرائب ، يفرون من بلدهم ، تاركين أرضهم ؛ خوفاً من الجلد والسجن ، ويذهبون إلى
بلد لا يعرفهم فيه أحد ، ولا تصل إليهم يد الحاكم الظالم .
وفى قرية من قرى مديرية
الدقهلية تسمى ( برنبال الجديدة ) ، استقرت فيها أسرة ( على مبارك ) بعد فرارها من
قريتها الأولى ( الكوم والخليج ) على ( بحر طناح ) ، وقد طابت الحياة لأسرة ( على
مبارك ) فى ( مقرها الجديد ) ، وكثر عددها حتى قاربوا المائتين ، وعرفوا باسم (
عائلة المشايخ ) ؛ فقد كان فيهم المشايخ الذين يعرفون القراءة والكتابة والحساب ،
وشيئاً من العلم الدينى الذى يحتاج إليه أهل القرى .
وكان منهم القضاة الذين
يحكمون بين المتنازعين .. والأئمة الذين يصلون بالناس الصلوات .. ويخطبون لهم
الجمع والأعياد .. ومن يعقدون لهم عقود الزواج ..
لهذه الأسباب ، كانت هذه
الأسرة محل احترامٍ كبير ٍمن أهل القرية .. كما كانت محل احترام وتقدير من
الحكومة . لذلك أعطتها الحكومة قطعة من الأرض ، تزرعها وتنتفع بغلتها ، وتستعين
بها فى أداء الأعمال الخيرية التى تقدمها لأهل القرية ..
وزيادة فى تقدير الحكومة
لها ، أعفتها من جميع الضرائب .. وفى تلك الأيام ، ولد لرب الأسرة الشيخ ( مبارك )
ولد سماه ( على ) ، كان لميلاده فرحة كبيرة فى القرية كلها ؛ مجاملة لأبيه الشهم
العطوف ، الذى يخدم أهل القرية ، ومجاملة لأمه الكريمة التقية ، التى لم تكن تلد
من قبله سوى الإناث ، وكان ذلك فى عام 1823 ميلادى 1239 هجرى
.
وقضت القرية كلها أياماً
سعيدةً ، تزف فيها التهنئة الخالصة للأسرة المحبوبة ، راجية أن يكون الوليد قرة
عين لأمه وأبيه ، وبشير خير لأسرته وللقرية جميعها .
لكن هذه الفرحة لم تدم
طويلاً ؛ فقد زادت الحكومة الضرائب زيادة كبيرة ، وضج الناس ، وعجزوا عن الدفع ؛
لأنه ليس لديهم مال يدفعونه لهؤلاء الحكام ، الذين لا يشبعون من المال . ولم تنج
أسرة الشيخ ( مبارك ) من هذه الضرائب ؛ فقد فرضت الحكومة الضرائب على كل الأراضي التى
تحت يديه ، بما فيها الأرض التى كانت الدولة أعطتها له ؛ ليستعين بها على أعمال
الخير . وزاد الأمر سوءاً ، حين أجبرته مثل غيره من الناس على قبول قطعة أرض أخرى
فر منها اصحابها ، وتركوها بما عليها من الديون المتأخرة التى عجزوا عن سدادها ،
وأوجبت عليه أن يؤدى جميع تلك الديون سريعاً .
وأمام العذاب الذى ينزل
بمن لا يسددون أو يتأخرون عن السداد ، اضطر الشيخ ( مبارك ) أن يبيع ما يملك حتى
أثاث المنزل ، لكن ذلك كله لم يكف بالضرائب ، فماذا يعمل وأبواب السجون مفتوحة على
مصاريعها ؟
لم يبق أمام الشيخ
الكريم ، إلا أن يصنع ما صنع أجداده ، حين فروا من قرية ( الكوم والخليج ) ولم
يتمهل ، واستتر بالليل وظلامه الشديد ، وسار بأهله تاركاً قريته ومديريته كلها ،
مبتعداً عنها ، متجهاً إلى ناحية الشرق ، وكان عمر ( على مبارك ) فى هذا الوقت نحو
ست سنوات .
وكلما وجد الشيخ ( مبارك
) المكان الذى ينزل فيه قلقاً به ، غادره مسرعاً إلى غيره حتى بلغ مديرية الشرقية
، وأبعد المسير فيها ، وانتهى الرحيل به إلى البدو فى الصحراء قريباً من القرى ،
يرعون الأغنام ويسكنون خيام الشعر ، يسمون ( عرب السماعنة ) .
فارتاح لهم ، ونزل بينهم
، وسر بهم لشهامتهم وكرمهم ، وسروا به ؛ لأنهم وجدوا فيه الرجل الذى كانوا يبحثون
عنه ، فقد كانوا يبحثون عن فقيه يرجعون إليه فى أمور دينهم ودنياهم ، وكان الشيخ (
مبارك ) رجلاً صالحاً ، حسن الأخلاق ، فأحبوه حباً شديداً ، وبنوا له جامعاً ،
وجعلوه إماماً لهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق